جـــــــــدى
:
يحكي
كبار عائلتنا عن القطط البيضاء التي جاءت إلي سرادق، العزاء المقام لجدي، واحتل كل
قط كرسيا واستمع إلي ربع من القرآن الكريم ثم نزلوا جميعا وراء بعضهم البعض و..
انصرفوا..
أكثرهم
حكيا لهذه القصة المدهشة أنا؛ فأنا شاهدة عيان لهذه الواقعة ولا أمل من حكيها ..
حكيتها
صغيرة لزملاء المدرسة، وحكيتها أما لأولادي، والآن أجمع أحفادي وأقول لهم:
جدي رغم لحيته البيضاء الكثة لم أكن أخاف منه.. أجري إليه بسنواتي
الخمس أتسلق ساقيه، واستقر علي فخذيه.. يمرجحني، يهدهدني، يداعبني، و.. يطعمني
بيده.. ..
أتناول
منه "الدبوسة" وأقطب جبيني وأقول وأنا غاضبة:
!أنت تعطيني العَضَمَه؟ -
ولأنني وقتها كنت أنطق الظاء ضادا مفتوحة، وكل حروف الكلمة مفتوحة
ومقلقلة فكان نطقها يدعو للضحك فيضحك الجميع ويطلبون مني إعادة الكلمة ثم اتخذوها
فيما بعد مادة للتندر والفكاهة.
ماذا يعطيك جدك يا عسل.؟-
- العَضَمَه.
......... هاها-
وعيت لأجد جدي هذا من حفظة القرآن الكريم لا يمل قراءته بصوت عال،
فكثيرا ما كنت أصحو من نومي علي قوله تعالي:
"فبأي آلاء ربكما تكذبان"
ولأن هذه
الآية تتكرر كثيرا كنت أظن أن جدي لا يعرف غيرها.. أجري إليه وأشد شعرة من لحيته
البيضاء وأقول له:
هو أنت لا تعرف "الكلب فلفل والقط شرشر. -
لا.. ما هما.؟-
أجري وأحضر له كتاب المدرسة: -
اقرأ هنا وأنت تعرف حاجات كتيرة. -
:يربت علي ظهري ويقول -
بارك
الله فيك.. اقعدي حتي احفظك القرآن. -
أحفظه
يا جدي كله.-
- كله ..كله!! اذن اسمعيني.
أضم
ذراعي فوق صدري وأقول بحروفي المقلقلة
أعوذ
بالله من الشيطان الرجيم.. بسم الله الرحمن الرحيم.. "فبأي آلاء ربكما
تكذبان" صدق الله العظيم
يضحك
جدي حتي يكاد يقع علي ظهره ويقول: -
- هذا كل القرآن؟! اقعدي..
واقرئي ورائي.
ظللت أردد وراءه حتي كبرت، وتقوّم لساني، وازداد تعلقي بجدي حتي قرر
أبي وأمي ما هز كياني، واقتلعني من جذوري.. انتقالنا إلي بيت جديد بعيد عن بيت
جدي، يومها بكيت كثيرا وقلت:
- تعال يا جدي معنا في البيت
الجديد، قال:
ونترك
جدتك وأخوالك.. اطمني سأزوركم كل أسبوع-
صدق
جدي، ووفي بوعده حتي صارت من عادته أن يذهب لصلاة الجمعة في مسجد سيدنا الحسين ثم
يأتي لزيارتنا وتناول الغداء معنا
وأصبح
لقائي به في الزيارات بمثابة لقاء الأحبة.. وفي كل زيارة أكتسب منه معلومة أو حكمة
أو لفتة دينية في أسلوب محبب.. فكان يشمر عن ذراعه ويقول:
- انظري أنا ذراعاي بيضاء وأنت ذراعاك سمراء من
الشمس.
يا حرام
ليس معكم نقودا لتزيدوا القماش نصف متر لتغطي ذراعيك
ترد أمي:
. - البنت صغيرة يا أبي
:فأرد من فوري -
- لا لست صغيرة، سأسمع كلام
جدي
ويختفي
من دولابي كل ثوب بنصف كم.. وكلما كبرت كلما تشبعت بمباديء جدي أكثر وتشوقت
لحكاياته أكثر وأكثر، وكنت أنتظر زيارة الجمعة بفارغ الصبر.. لاستمتع بحكاياته
الكثيرة عن ذى النون المصري، وسيدنا الخضر، وقصة مرض سيدنا أيوب وصبره علي هذا الابتلاء
حتي شفاه الله، وقصة سيدنا موسي الذي عدي البحر ولم يبتل، أما القصة التي يحبها
جدي ويرددها كثيرا فهي قصة الحوت الذي ابتلع سيدنا يونس ولم يهضمه.. ثم يردد في
نهاية كل قصة:
سبحان
الله " فبأي آلاء ربكما تكذبان."
رويدا
رويدا أدركت معناها وتغلغلت في نفسي.
هل تدوم
سعادتي بجدي..؟
كان من
الممكن لولا ذلك اليوم الذي دق بابنا دقا عنيفا فجرينا نحو الباب ونحن نردد:
- حاضر
حاضر.. يا ساتر أستر يا رب.!
وما أن
فتحنا الباب حتي اندفع جدي مسرعا يدخل ويغلق الباب خلفه ويسرع إلي أبعد غرفة ويغلق
بابها عليه وهو يقول:
-لا تفتحوا..
لا تفتحوا.
ودق
الباب مرة أخري بنفس القوة وجدي لا يزال يردد لا تفتحوا. وفتحنا فاذا بخالي يدخل
وينهبد علي أقرب مقعد.
وعرفنا
أغرب حكاية بطلها جدي وهو ليس راويها هذه المرة.
قال
خالي:
لا نعرف
الذي حدث له.. منذ أسبوع يكلم أشخاصا
أمامه، ويصر علي أنه يراهم ويكلمونه، ويصر أكثر علي تحديهم ومخالفة أوامرهم.
تلفتنا
إلى بعضنا البعض وخالى يكمل:
- ذهبنا
به إلي أكثر من طبيب ولم يعرفوا العلة.
أطل جدي
بحذر من الغرفة التي يختبيء فيها من خلال فرجة صغيرة وقال:
- الحمد لله.!! .. مشوا.
- من يا جدي.؟
فريدة وفهيمة -
-
- من
هما.؟
- فريدة أم فهيمه، والاثنتان تريدان الزواج مني.
انفجرتُ
في البكاء.. ضاع جدي الحبيب، أصابه مس من الجن، يارب ارحم جدي الطيب الذي يحفظ
كتابك ويردده ليل نهار.
هدأنا
جميعا مع صوت الله أكبر. وأخذ كل منا يردد الآذان ويدعو لجدي بالحماية من كل شر.
وقام
جدي مسرعا كعادته ليتوضأ، وأسرعت أفرش له المصلية، واستقبل جدي القبلة وقال:
الله
أكبر
ثم توقف
وقال لشخص في خياله.
"وبعدين"
معك يا فريدة.؟! أريد أن أصلي، أنت
تعطليني عن فرض ربنا.. لا والله لن أسمع كلامك، وفهيمة أيضا حضرت أهى، هيا يافهيمة
خذي أمك وامشي.
نعم..
نعم سأتكلم أمامهم.. لا لن أسكت وسأحكي لهم كل شيء.. ابعدي عني وأنا أسكت.. يا
فريدة خذي بنتك وامشي.. خذي امك يا فهيمة.. لأ.. قلت لك لأ.. لا أنت ولا أمك.. طيب
سأقول لهم، والله سأقول لهم.. طيب امشي.. الله لا يسيئك امشي.. الله أكبر.. ياه
مرة أخرى.. إذن لن أصلي ارتحت أنت وهى.. متشكر يا ستي مع السلامة.. الله أكبر.
وجوهنا
جميعا ممتقعة بالدم، العيون فائضة بالدمع، القلوب منخلعة علي الجد الحبيب.. وما
العمل.؟! قالت أمي:
العمل.!.. حد
عمل له عمل.-
والحل؟
- الزار.. نعمل له زار يخرج
العفاريت من "جتته"
هز خالي
رأسه أسفا و.. قال الأمر لله.. لا مانع.
تمت
الاتصالات وعرفنا موعد الزار وفي أي بيت يكون، ولما قالت أمي
هيا يا
أبي تشبث بي.. وتشبثت به.. فقالت:
لا مانع
تعالي معنا
كان
هناك شيئا يشبه الهودج أو السرير أبو ناموسية يتوسط الغرفة، وكان الرجال والنساء
يدورون حول هذا الشيء يتمايلون يمينا وشمالا، وهناك من يدق لهم علي الطبول، ومن
يطلق البخور، وهناك من يرفعون
أصواتهم من وقت لآخر بصياح مزعج أو بصراخ مفزع.. قالت
لنا المسئولة التي جاءت بنا:
- اجلسوا هنا في هذا الركن، ولما تأتي الدقة
التي تناسب قرينه سيقوم وحده ويندمج في الذكر.. "الزار:
كاد
قلبي ينخلع من هول المشهد، ويزداد دقه كلما تغيرت دقة دفوفهم، فتتعلق عيناي
بدموعهما بجدي وأسجل في رأسي ملامح وجهه.
أراه في
كل مرة يزداد ضيقا وليست عيناي فقط اللتان تتعلقان بوجهه، فهناك عينا الكدية أو
الوسيطة، وجدي لا يحرك ساكنا، وأخيرا قام، ولكنه لم يتجه إلي وسط الحلقة كما
توقعنا بل إلي باب الخروج، ونحن نسرع من ورائه.
تدهورت
صحة جدي وزاد حواره مع من يسميهما فهيمة، وفريدة.. خصوصا في وقت الصلاة.. ولكنه
أبدا.. أبدا لم يترك فرضا حتي آخر صلاة صلاها وفاضت روحه الطاهرة وهو ساجد لله.
أقام
أخوالي سرادقا كبيرا في الشارع أمام البيت حضره جميع الأقارب وأهل الحي وامتد بهم
الوقت إلى ما بعد منتصف الليل، يفرغ الصوان ويمتليء بالناس الذين يحبون جدي،
ويتبركون بسيرته.. ولما انتهت الليلة وصعد أخوالي كنت لا أزال في حضن أمي أبكي
وأنهنه وهي تربت علي ظهري
وتصبرني.
توقف
نحيبي لأسمعهم يتحدثون عن الشيء الغريب الذي حدث في سرادق العزاء، ويقسمون
بالله أن سبع قطط سمان ناصعة البياض دخلوا إلي السرادق وراء
بعضهم البعض. واستقل كل قط كرسيا علي مرأي من كل الحضور الذين صاحوا في وقت واحد:
- الله أكبر.. الله أكبر.
جلس كل
قط فوق مقعده في خشوع واستمع إلي ربع من
القرآن الكريم، ثم نزلوا من علي مقاعدهم وراء بعضهم البعض و.. مشوا.