الاثنين، 26 نوفمبر 2012

جـــــــــدى: بقلم الأديبة والكاتبة الصحفية نادية كيلانى


جـــــــــدى
:
يحكي كبار عائلتنا عن القطط البيضاء التي جاءت إلي سرادق، العزاء المقام لجدي، واحتل كل قط كرسيا واستمع إلي ربع من القرآن الكريم ثم نزلوا جميعا وراء بعضهم البعض و.. انصرفوا..
أكثرهم حكيا لهذه القصة المدهشة أنا؛ فأنا شاهدة عيان لهذه الواقعة ولا أمل من حكيها ..
حكيتها صغيرة لزملاء المدرسة، وحكيتها أما لأولادي، والآن أجمع    أحفادي وأقول لهم:   
 جدي رغم لحيته البيضاء الكثة لم أكن أخاف منه.. أجري إليه بسنواتي الخمس أتسلق ساقيه، واستقر علي فخذيه.. يمرجحني، يهدهدني، يداعبني، و.. يطعمني بيده.. ..
أتناول منه "الدبوسة" وأقطب جبيني وأقول وأنا غاضبة:
!أنت تعطيني العَضَمَه؟ -       
 ولأنني وقتها كنت أنطق الظاء ضادا مفتوحة، وكل حروف الكلمة مفتوحة ومقلقلة فكان نطقها يدعو للضحك فيضحك الجميع ويطلبون مني إعادة الكلمة ثم اتخذوها فيما بعد مادة للتندر والفكاهة.  
 ماذا يعطيك جدك يا عسل.؟-
- العَضَمَه.              
......... هاها-          
   وعيت لأجد جدي هذا من حفظة القرآن الكريم لا يمل قراءته بصوت عال، فكثيرا ما كنت أصحو من نومي علي قوله تعالي:
 "فبأي آلاء ربكما تكذبان"
ولأن هذه الآية تتكرر كثيرا كنت أظن أن جدي لا يعرف غيرها.. أجري إليه وأشد شعرة من لحيته البيضاء وأقول له:
 هو أنت لا تعرف "الكلب فلفل والقط شرشر. -
  لا.. ما هما.؟-
 أجري وأحضر له كتاب المدرسة:
  اقرأ هنا وأنت تعرف حاجات كتيرة. -
 :يربت علي ظهري ويقول
بارك الله فيك.. اقعدي حتي احفظك القرآن. -     
  أحفظه يا جدي  كله.-
- كله ..كله!! اذن اسمعيني.
أضم ذراعي فوق صدري وأقول بحروفي المقلقلة
 أعوذ بالله من الشيطان الرجيم.. بسم الله الرحمن الرحيم.. "فبأي آلاء ربكما تكذبان" صدق الله العظيم
يضحك جدي حتي يكاد يقع علي ظهره ويقول:
   - هذا كل القرآن؟!  اقعدي.. واقرئي ورائي.      
 ظللت أردد وراءه حتي كبرت، وتقوّم لساني، وازداد تعلقي بجدي حتي قرر أبي وأمي ما هز كياني، واقتلعني من جذوري.. انتقالنا إلي بيت جديد بعيد عن بيت جدي، يومها بكيت كثيرا وقلت:
 - تعال يا جدي معنا في البيت الجديد، قال:
    ونترك جدتك وأخوالك.. اطمني سأزوركم كل أسبوع-
صدق جدي، ووفي بوعده حتي صارت من عادته أن يذهب لصلاة الجمعة في مسجد سيدنا الحسين ثم يأتي لزيارتنا وتناول الغداء معنا
وأصبح لقائي به في الزيارات بمثابة لقاء الأحبة.. وفي كل زيارة أكتسب منه معلومة أو حكمة أو لفتة دينية في أسلوب محبب.. فكان يشمر عن ذراعه ويقول:
- انظري أنا ذراعاي بيضاء وأنت ذراعاك سمراء من الشمس.
يا حرام ليس معكم نقودا لتزيدوا القماش نصف متر لتغطي ذراعيك
 ترد أمي:
. - البنت صغيرة يا أبي
 :فأرد من فوري -
   - لا لست صغيرة، سأسمع كلام جدي
ويختفي من دولابي كل ثوب بنصف كم.. وكلما كبرت كلما تشبعت بمباديء جدي أكثر وتشوقت لحكاياته أكثر وأكثر، وكنت أنتظر زيارة الجمعة بفارغ الصبر.. لاستمتع بحكاياته الكثيرة عن ذى النون المصري، وسيدنا الخضر، وقصة مرض سيدنا أيوب وصبره علي هذا الابتلاء حتي شفاه الله، وقصة سيدنا موسي الذي عدي البحر ولم يبتل، أما القصة التي يحبها جدي ويرددها كثيرا فهي قصة الحوت الذي ابتلع سيدنا يونس ولم يهضمه.. ثم يردد في نهاية كل قصة:
سبحان الله " فبأي آلاء ربكما تكذبان."
رويدا رويدا أدركت معناها وتغلغلت في نفسي.
هل تدوم سعادتي بجدي..؟
كان من الممكن لولا ذلك اليوم الذي دق بابنا دقا عنيفا فجرينا نحو الباب ونحن نردد:
- حاضر حاضر..  يا ساتر أستر يا رب.!  
وما أن فتحنا الباب حتي اندفع جدي مسرعا يدخل ويغلق الباب خلفه ويسرع إلي أبعد غرفة ويغلق بابها عليه وهو يقول:
-لا تفتحوا.. لا تفتحوا.
ودق الباب مرة أخري بنفس القوة وجدي لا يزال يردد لا تفتحوا. وفتحنا فاذا بخالي يدخل وينهبد علي أقرب مقعد.
وعرفنا أغرب حكاية بطلها جدي وهو ليس راويها هذه المرة.
قال خالي:
لا نعرف الذي حدث له.. منذ أسبوع يكلم أشخاصا  أمامه، ويصر علي أنه يراهم ويكلمونه، ويصر أكثر علي تحديهم ومخالفة أوامرهم.
تلفتنا إلى بعضنا البعض وخالى يكمل:
- ذهبنا به إلي أكثر من طبيب ولم يعرفوا العلة.
أطل جدي بحذر من الغرفة التي يختبيء فيها من خلال فرجة صغيرة وقال:
  - الحمد لله.!! .. مشوا.                    
  - من يا جدي.؟
 فريدة وفهيمة -
-                   - من هما.؟
  - فريدة أم فهيمه، والاثنتان تريدان الزواج مني.
انفجرتُ في البكاء.. ضاع جدي الحبيب، أصابه مس من الجن، يارب ارحم جدي الطيب الذي يحفظ كتابك ويردده ليل نهار.
هدأنا جميعا مع صوت الله أكبر. وأخذ كل منا يردد الآذان ويدعو لجدي بالحماية من كل شر.
وقام جدي مسرعا كعادته ليتوضأ، وأسرعت أفرش له المصلية، واستقبل جدي القبلة وقال:
الله أكبر
ثم توقف وقال لشخص في خياله.
"وبعدين" معك يا فريدة.؟! أريد أن  أصلي، أنت تعطليني عن فرض ربنا.. لا والله لن أسمع كلامك، وفهيمة أيضا حضرت أهى، هيا يافهيمة خذي أمك وامشي.
نعم.. نعم سأتكلم أمامهم.. لا لن أسكت وسأحكي لهم كل شيء.. ابعدي عني وأنا أسكت.. يا فريدة خذي بنتك وامشي.. خذي امك يا فهيمة.. لأ.. قلت لك لأ.. لا أنت ولا أمك.. طيب سأقول لهم، والله سأقول لهم.. طيب امشي.. الله لا يسيئك امشي.. الله أكبر.. ياه مرة أخرى.. إذن لن أصلي ارتحت أنت وهى.. متشكر يا ستي مع السلامة.. الله أكبر.
وجوهنا جميعا ممتقعة بالدم، العيون فائضة بالدمع، القلوب منخلعة علي الجد الحبيب.. وما العمل.؟! قالت أمي:
   العمل.!.. حد عمل له عمل.-
والحل؟
  - الزار.. نعمل له زار يخرج العفاريت من "جتته" 
هز خالي رأسه أسفا و.. قال الأمر لله.. لا مانع.
تمت الاتصالات وعرفنا موعد الزار وفي أي بيت يكون، ولما قالت أمي
هيا يا أبي تشبث بي.. وتشبثت به.. فقالت:
لا مانع تعالي معنا
كان هناك شيئا يشبه الهودج أو السرير أبو ناموسية يتوسط الغرفة، وكان الرجال والنساء يدورون حول هذا الشيء يتمايلون يمينا وشمالا، وهناك من يدق لهم علي الطبول، ومن يطلق البخور، وهناك من يرفعون أصواتهم من وقت لآخر بصياح مزعج أو بصراخ مفزع.. قالت لنا المسئولة التي جاءت بنا:
- اجلسوا هنا في هذا الركن، ولما تأتي الدقة التي تناسب قرينه سيقوم وحده ويندمج في الذكر.. "الزار:
كاد قلبي ينخلع من هول المشهد، ويزداد دقه كلما تغيرت دقة دفوفهم، فتتعلق عيناي بدموعهما بجدي وأسجل في رأسي ملامح وجهه.
أراه في كل مرة يزداد ضيقا وليست عيناي فقط اللتان تتعلقان بوجهه، فهناك عينا الكدية أو الوسيطة، وجدي لا يحرك ساكنا، وأخيرا قام، ولكنه لم يتجه إلي وسط الحلقة كما توقعنا بل إلي باب الخروج، ونحن نسرع من ورائه.
تدهورت صحة جدي وزاد حواره مع من يسميهما فهيمة، وفريدة.. خصوصا في وقت الصلاة.. ولكنه أبدا.. أبدا لم يترك فرضا حتي آخر صلاة صلاها وفاضت روحه الطاهرة وهو ساجد لله.
أقام أخوالي سرادقا كبيرا في الشارع أمام البيت حضره جميع الأقارب وأهل الحي وامتد بهم الوقت إلى ما بعد منتصف الليل، يفرغ الصوان ويمتليء بالناس الذين يحبون جدي، ويتبركون بسيرته.. ولما انتهت الليلة وصعد أخوالي كنت لا أزال في حضن أمي أبكي وأنهنه وهي تربت علي ظهري وتصبرني.
توقف نحيبي لأسمعهم يتحدثون عن الشيء الغريب الذي حدث في سرادق العزاء، ويقسمون بالله  أن سبع قطط  سمان ناصعة البياض دخلوا إلي السرادق وراء بعضهم البعض. واستقل كل قط كرسيا علي مرأي من كل الحضور الذين صاحوا في وقت واحد:
- الله أكبر.. الله أكبر.
جلس كل قط  فوق مقعده في خشوع واستمع إلي ربع من القرآن الكريم، ثم نزلوا من علي مقاعدهم وراء بعضهم البعض و.. مشوا. 

الأحد، 25 نوفمبر 2012

جـــــدتي: بقلم الأديبة والكاتبة الصحفية نادية كيلانى


جـــــدتي
:
يووه ياجدتي.. اخفضي صوتك أريد أن أنام.
- قومى ياحبيبتى توضائي وصلي الفجر.. عمرك الآن تسع سنين
- أنا صغيرة ياجدتي صلي أنت واخفضي صوتك.
- لازم تتعودي ياحبيبتي قبل العلقة.. كل يوم أقول لك هذا الكلام
- يووه ياجدتي.
رغم الكسل والتأفف الذين أبديهما أنهض, وأذهب متذمرة إلى الحمَّام ثم أتوضأ وأعود نصف نشيطة.. أصلي بجوارها ركعتي الصبح فقد كانت تصلي منذ قليل سنة الفجرالمؤكدة  كما قالت لي, وهي تسامحني عنها  الآن، وربنا أيضا يسامحني.. ولكن فى السنة القادمة عندما أصل إلى العاشرة لابد وأن أصلي الفرض والسنة لوقتهما وإلا نالتني علقة ساخنة من كل فرد في البيت.
بعدما أنتهي من الصلاة يكون النوم قد طار تماما وأبدأ مع جدتي رحلة الصباح الممتعة لي، والتي أحضر كل عام في الأجازة من أجلها..
 أحمل كيس الحبوب وهي تحمل الخبز الجاف نصعد الدرج.. عند أول شقة فوق شقة جدتي أحاول أن أضغط جرسها.. تنظر لي بعينين واسعتين.. أفهم أنها ترفض فأتبعها وعند الشقة التي تليها أسألها:
- أضغط زر الجرس.؟!
ترد:
- ليس الآن،  أواصل الصعود خلفها حتى السطح.. تذهب أول ماتذهب إلى برج الحمام تفتحه وهي تبسمل.. وتقول:
- صباح الخير يا حمامي الجميل.
 يطير الحمام ويحط على كتفها ورأسها ويدها وهي تلقي له بالحبوب..
- وماذا بعد يا جدتي.؟
تنظر لي لتعرف أنني مصغية تماما قبل أن تسترسل:
- المرحوم جدك كان ناوي يبني له شقة مثل إخوته لكن القدر لم يمهله.
عرفت أنها تتكلم عن خالي "صلاح" الذي سافر العراق منذ شهور..
أكملت:
- ولما مات قسمنا كل شيء حسب الشرع أخواته قالوا: يسكن معك، قلت: يوم المنى، يعمرها بعياله، وأنا أشيلهم في عيني.. فجأة لقيته شد الرحال، وحتى لو جمع ثمن الشقة، يرضيه يخرج من بيت العيله.؟!
استدارت ناحية البط:
- يوووه.. أنت طوال النهار تبلبط نفسك في الماء وتملمأ الأرض هكذا.؟ خلقك ضيق مثل صاحبك، والله لولا أني أدخرك "لصلاح"  لمَّا يأتي بالسلامة لذبحتك الآن، تفضل هذا هو الفول والعيش المبلول، كل وأسمن، زمان الرجل راجع هفتان.. هي الغربة فيها أكل أو راحة.
- متى سيأتي خالي يا جدتي؟
- قريب إن شاء الله.. هو يقدر يستغنى عن أمه.
- وسيأكل كل هذا البط وحده..؟!
ضحكت وقالت:
- وأنت وأمك وكل الحبايب لأجل خاطر "صلاح".
ثم تنهدت وقالت: سنة كاملة يا حبيبي ألم توحشك أمك.؟!
كل عشة تفتحها جدتي يخرج إلى السطح محتوياتها من الطيور، فاردة جناحيها للشمس والهواء.. فتقوم هي بتنظيف المكان، وإخراج فرشه في الشمس وتلقي بالفول، والذرة العويجة، والخبز والبرسيم، فيقبل كل طير على طعامه، إلا الرومي الصغير.. تجلس جدتي القرفصاء، وتقشر له البيضة وهو ينقرها من يدها صابرة حتى ينتهي إلى آخر فتفوته..وأسألها مندهشة:
- لماذا هذا الرومي يأكل بيض.؟!
- نفسه عزيزة مثل "صلاح".. يأكل اللقمة الحلوة ويحب يعيش في المكان النظيف.
تمسك بذكر الحمام وتلاغيه: تعال يا "صلاح" أنت مثل "صلاح"  ابني نفري، أرقد على البيض بالتبادل مع وليفتك ولا تتركها "يتنحل" وبرها وأنت واقف تتفرج.
أقول لها مندهشة:
- الحمام اسمه "صلاح" ؟
تتنهد وتقول:
- حبيبي طوِّل الغيبة عليَّ، ادعى له يا الحمام يرجع لأمه بالسلامة.. هو الآن رجلي بعد أبوه.
وقبل أن تولي برج الحمام ظهرها لا تنسى أن تقول له لن أتأخر عليك.
أسألها:
- أين خالي "صلاح"  ياجدتي.؟
- في الغربة يا ابنة الغالية.
ثم تواصل وهي تحدث نفسها:
- عمر المال ما يساوي الغربة يا حبيبي.. وهل نحن محتاجون يا ناس.. ماهي مستورة .. قال مسافر يجمع ثمن الشقة.. وهو أنا تأخرت، ماشقتي موجودة.. وأتمنى يتزوج ويعيش معي فيها.. وهل هو يقدر يوفر ثمن شقة مثل هذه.؟! آه من جيل هذه الأيام.
استدارت جدتي إلى حظيرة الدجاج.. أخذت المساقي وأعطتها لي وقالت: اغسلي واملائي.
عدت بالمساقي نظيفة، وممتلئة فوجدتها قد كنست العشة وألقت بالذرة والخلطة التي تصنعها له، وسمعتها تقول للدجاج.
غدا أولاد هاني يملأوا عليَّ الشقة كهذه الكتاكيت الحلوة .. قولي يارب قرب البعيد ورجعه بالسلامه.
رددت ما أرادت وسالتها:
- أنا قلت له اسكن معي في الشقة التي تربى فيها مع إخوتة، وشفت فيها أجمل أيام مع أبوهم الله يرحمه، شقه فيها البركة وريحها خفيف وتطل علىى حديقة حلوة.. مهما شفت من بيوت لا أستطيع أن أنام ولا أرتاح إلا فى بيتي وغرفتي.. منذ أن بنيته أنا والمرحوم جدك على أيدينا.. تعودت على كل ركن فيه لا أستطيع أن أغير مكاني ولا فرشتي ربنا ما يحرم أحد من بيته.
كيف لا أفهم وقتها ما تقوله جدتي، وكان أكثر ما يشغلنى احتفالية الطيور التى تتجمع حول جدتي.. أرفع رأسى مع الذى يرف حول اكتافها واخفضها مع الذي يدور حول قدميها شاخصا ببصرة إلى مافي يديها.. أما أنا فسعيدة كل السعادة بهذة المظاهرة، ولا أكف عن الاسئلة:
- ما أخبار الأرانب الصغيرة التى ولدت في العام الماضي وأنا خفت من شكل جسمهما العارى المرصوص بحذاء عتبة العشة.!!
- يوووة.. أكلنا منها كثير.. وبعثنا لكم منها.. في الأصل هي أرنبة "صلاح".. أرنبة أصيلة ولود.
وأضحك بملء فمي وأنا أتذكر خروف العيد من سنتين والذي كان مربوطا في الحديقة، وما أن رأيته وكنت أسير خلف أمي التي سبقتني بالدخول، إذا بي أتوهم أن الخروف ينظر إليَّ ويتوعدني، فأصاب بالرعب وإذا بي أستدير وأسرع الخطى إلى الخارج.. وقد صدق حدسي فقد قطع الخروف حبله وأسرع خلفى.. ظللت أجري في الشارع وأصرخ حتى أمسك بي خالي "صلاح"، وأمسك آخر بالخروف، واحتضنني وهو ينهج من الركض في إثرنا، وهدأ من روعي وهو يقول:
- سوف أذبح هذا الخروف أمام عينيكِ حتى لا يفعلها معك مرة أخرى.!
وعدت وأنا أمسك بحبل الخروف وفى الحديقة أعاد رباطه، وجعلني أركب على ظهره قليلا، وكلها محاولات لكي يرفع عني الرهبة ويعيد الي سكينتي.. ويومها خالي هاني انحنى على ركبتيه ويدية مثل الخروف وأركبني على ظهره، وهو يمأمئ مثله، وأنا أضحك، وجدى يضحك.. ولم ينس فى آخر الزيارة أن يجعلني أسلم على الخروف وأربت على ظهرة بيد وأمسك ذيل أمي باليد الأخرى عائدتين إلى بيتنا.
ضحكت أنا وجدتي ونحن نتذكر تلك الحكاية وأقول لها والله خالى "صلاح"  طيب جدا.. يارب ياتي اليوم.
وترد على الفور وهى تتنهد:
- ليته.. ألم توحشك أمك يا حبيبي..؟
انتهت جدتي من مهماتها مع الطيور.. أمسكت بزوج من الدجاج وبزوج غيره في اليد الأخرى واتجهنا ناحيا الدرج.. وهنا سمحت لي أن أسبق وأدق الجرس عند أول شقة بعد السطح.
هرول ابن خالي "حسن" يفتح الباب ثم يرفع صوتة:
- بنت عمتىي وجدتي يا ماما.. دخلتُ وفي إثري جدتي، تناول ابن خالي زوج الدجاج من يد جدتي ودخل به إلى أمه، وعاد بسرعة وتناول الزوج الأخر ونزل به إلى الشقة التي تحت شقتهم، بينما هب خالي "حسن" واقفا يستقبل أمه.
- صباح الخير يامه.. ثم يقبل يديها:
- كيف حالك يا ست الكل.؟
- بخير يا حبيبي طالما أنت بخير.. نظر إليَّ وتابع كلامه ماذا فعلت معك هذه الشقية.؟
- لعبت مع الدجاج والبط وسألتني عن الغائب الحاضر.
- غدا يأتي بالسلامة يا أمي.. وتفرحي به وبعياله، كما فرحت بنا جميعا.
- أكتب له يا "حسن".. قل له أمك لا تريد أي شيء من الشقة سوى غرفتها.. أنت متربي على الغالي يا حبيبي، ولست حمل غربة وعذاب.
- سيكون كل شيء على ما تحبي يا أمي.. فقط أعطي له فرصة يجرب حظه.
- الغائب حتى يعود..
- مزيدا من الصبر يا حاجة، ونحن جميعا من حولك.
جاء صوت زوجة خالي قبل أن تظهر تحمل صينية الإفطار.
 رد خالي على زوجته:
- خفي عن أمي.
- هو أنا قلت شيء خطأ.. الغائب له معزة خاصة.. ربنا يرجعه بالسلامة.. وضعت الصينية.
- تأخرت على الإفطار اليوم يا حاجة.. الأولاد رفضوا الأكل من غيرك.. باسم الله حتى يلحق ابنك شغله.
كان الفطار اليوم في شقة خالي حسن الذي نزل إلى عمله بعد أن قبل يدها مرة أخرى وأمر ابنه أن يقبل يد جدته.. وهمت جدتي بالنزول وقالت زوجة خالي.
- خارجه وراء ابنك على طول.. ابقي معي قليلا.
ردت جدتي:
- لما أمر على ابني الثاني قبل ما يخرج.
نزلت الدرجات وتوقفنا عند الشقة التالية.. فتحت زوجة خالي وصاحت:
-  الحاجة وصلت يا "محمد".. أهى بخير ونازلة من فوق.
أسرع خالي "محمد" مهرولا يستقبل والدته وقد لبس نصف قميصه قبَّل يديها ورأسها قائلا:
- انشغلت عليك يا حاجة.. نصف ساعة تأخير عن ميعادك، والإفطار جاهز.
- سبقتك عند "حسن".. النهاردة يومه.. كل أنت بالهنا والشفا.
أحببت طقوس جدتي وأخوالي وكنت في سني الصغيرة أحس لها بمذاق حلو ونكهة محببة، وكان يقر في نفسي أن أخوالي أطيب وأبر رجال الدنيا وأن جدتي شيء مقدس يتبرك به الشخص قبل أن يبدأ يومه.
كنت في كل أجازة أذهب إليها أخطتـف بعض الأخبار وأتزود بهذا العبق الحلو.
استمرت غربة خالي ثلاث سنوات أخر، وأنا في كل عام أذهب وأعيش ذات الطقوس التي تعزفها جدتي مع الطيور أولا، ومع أولادها وأحفادها ثانيا.. وفي كل عام أثناء توجعها على الغائب تضيف عدد سنين الغربة:
- سنتان يا نور عيني، ثلاث سنين يا حبيبي.. أربع سنين يا عمري ولا شيء غير الخطابات.؟!
في أجازة الصيف التالي ذهبت إلى جدتي كالعادة.. وكان خالي "صلاح" قد عاد منذ شهور قليلة، والعجيب أن جدتي ليست في حالة السعادة التي كنت أتوقعها لها:
- لماذا أنت متجهمة يا جدتي.. في وجه خالي"صلاح" .. وماذا يفعل في السطح.؟!!
لم ترد وعرفت الجواب متناثرا على ألسن الصغار والكبار.. وأحاديثهم الثنائية والثلاثية والجماعية والفردية.. خالي "صلاح" يبني حجرة فوق السطح لتقيم فيها جدتي.. سألتها:
- لماذا أنت غاضبة.؟!.. قالت:
- على آخر العمر ياولادي تدفنوني بالحيا.. أخرج من بيتي مرغمة وأنا حية:
- وماذا فيها يا جدتي سيبنون لك غرفة جميلة وينقلون لك سريرك ودولابك.
- وذكرياتي.....؟!
ارتجف قلبي.. نظرت إليها فأكملت:
- بنيت هذا البيت مع جدك طوبة طوبة، شلت المونة والرمل والحصى على رأسي.. لا يغرك الحي الراقي، من زمن كان صحراء، وكنا من أوائل الناس الذين جاءوا وعمروا في البداية.. بنينا شقتي والحديقة.. خلفت صبياني كلهم والبنت هنا.. أمك تزوجت وأخذها أبوك إلى بيته، ولما جاء الدور على الكبير "حسن"، قلت الولد لا يخرج من بيت أبيه، بنينا له شقة والثاني أيضا بنينا له، لا أترك ابني أبدا.؟
-  وجدك وعدني نبني شقة أخيرة "صلاح"  مثل إخوته لكنه رحل.. مات وتركني لأولادي يهينوني ويخرجوني من بيتي.
-  يقولون يا جدتي إن هذا في صالحك حتى تكوني بجوار طيورك وحتى يعفوك من طلوع الدرج.. والذي سيزيد دورا إذا بنوا شقة رابعة..
مصمصت شفتيها:
-       قلبهم عليَّ يعني.!!.. يتركوني في حالي أنا وجدك .
-       فغرت فاهي:
-       جدي.. !! ألم يمت جدي.!
-       قالت بهدوئها المعتاد:
-       مات عندكم أنتم.. أما أنا فأراه في كل مكان فيه أجلس، وفيه أمشي،
نهضتْ تفسر لي هذا اللغز:
-  كل يوم نصلي الفجر معا هنا في ذات المكان.. ولما كان يرجع من شغله تعبان أدلك له رجليه بالماء الدافيء والملح.. هنا فوق هذه الكنبة،.. وآخر اليوم نجلس هنا نتحدث ونقول لبعضنا أحوال العيال وماذا نفعل لهم.
-       تنهدتْ وهى ترفع عينيها:
-  انظري صورتي مع جدك ونحن ذاهبان إلى الحجاز.. من يومها وهي فوق هذا الحائط لو انتقلت إلى مكان آخر فقدت معناها، يريدون لي أن أعيش بلا معنى.
-  لم أكن أعلم أن بداخل جدتي كل هذا المخزون من الألم، والحب.. تعاطفت معها فقلت لها بحماس :
-       اعترضي يا جدتي قولي لا.!
-       اسندت رأسها بيدها وقالت:
-       من يقرأ ومن يسمع.!!
 تركتها هذه المرة وفي قلبي مشاعر لا أعرف وصفها، أهمها شعوري بأن جدتي بدأت تفقد حياتها مادامت ستعيش بلا معنى كما تقول:
-  وتم نقل جدتي إلى الغرفة الجديدة.. وتم زفاف خالي في شقتها بعد أن غير ملامحها ودعتني أمي لزيارة جدتي معها.. فهي مريضة قليلا.. وآخر اليوم طلبت من أمي أن أبقى معها ليومين، ففعلت فهى تعلم مدى حبي لجدتي.
-  في الصباح صحوت على صوتها وهى تصلي دون أن توقظني كما كانت تفعل.. سألتها فقالت:
-  كل واحد معلق من عرقوبه، تريدين أن تصلي قومي.؟ لا تريدين نامي... نهضت شاردة أفكر في كلامها.. كيف فقدت حماسها لهذه الدرجة.
-       بعد أن انتهينا من صلاتنا وتسبيحنا قلت لها:
-  الآن لا نحتاج إلى صعود الدرج لكي نطعم الدجاج والحمام خطوة واحدة ونكون عندهم.
-       وجدتها تضم كفيها وتفردهما في تحسر وتقول:
-       وأين هي الطيور يا حبة عيني.. كان زمان وجبر..
-  اندفعت أفتح الباب وأسرع إلى العشش فإذا هى خاوية على عروشها لا حمام في البرج، ولا أرانب في الخن، ولا دجاج في العش، ولا زرع أخضر في القصاري.
-       لماذا يا جدتي.؟!
وتضاربت الأقوال.. فمن قال:
-       كسل وكبر سن، لم تعد قادرة على خدمة الطيور. ومن قال:
-  تعاقبنا لأننا لم نعترض على نقلها إلى الغرفة الجديدة.. وقالت العروس الجديدة الحامل:
-       حتى لا تغذيني أثناء الولادة.. تريد أن تأخذ زمنها وزمان غيرها.!!
-       أما جدتي فقالت.. لا تشرب الطيور من ماء العيون.!!