الاثنين، 19 نوفمبر 2012

الشاطر قنديل: بقلم الأديبة والكاتبة الصحفية نادية كيلانى


الشاطر قنديل

دقت الدفوف أعلن الدرويش  بسم الله نبدأ الموكب، صحت لأمى 
زفة عم قنديل الحلو:
- أنا رايحة ألحق بالزفة.
تصرخ أمى:
- يابت عيب أنت كبرت على هذه التصرفات.
يصرخ أخى الصغير رافعا ذراعيه لكى أحمله.
تتنهد أمى فى استسلام :
-  طيب خذيه معك.
 "ألفع" الولد أذرعه فى وسطى، وأجرى ألحق بالعيال؛ بنات، صبيان، حفاة ومنتعلين، ربما أكون أطولهم قامة، لا يشكل لي هذا حرج، ألف أخي باليد اليسرى وأشير باليمنى:
 - انتظروا ياعيال أنا معاكم.
 تصرخ فتحية بنت عم حسن صاحب السرجة: 
 - الزفة واقفة أهه، مسربعه على إيه؟
عم قنديل فوق الحصان، والرجال يتحلقون حوله، يتشاورون من أين تبدأ الزفة، يرتفع صوت أحدهم:
-  مثل العام الماضى؛ المسيرة من درب الجماميز، وحتى بركة الفيل، ثم شارع قدرى فميدان السيدة زينب، وندخل شارع السد، حتى أبو الريش، ثم نعود بإذن الله .
الجميع :
- على بركة الله.
نلف الشوارع خلف الحصان، عم قنديل فوقه مثل الباشا، جلباب ناصع بياضه، فوقه عباءة خوخية اللون فى غاية الأبهة، أمام الحصان يوجد الدراويش، بالدفوف ينشدون الأناشيد، يتعب الأطفال من طول اللف، يتسربون الواحد بعد الآخر.. أصر على الاستمرار.. أقاوم وأقاوم، رغم ثقل أخي  الذى أحمله:
-  خدى يا فتحية الواد ده شوية عنى. 
- هاتى ياختى أيه إللى خلاك تجبيه.
-  هو اللى شبط، خفت أمى تقولى أقعدى. 
يبدأ الولد فى القلق، يصرخ على يد فتحية، يخمش وجهها:
-  خدى ياختى أخوك ده هيبهدلنىي.
 أخذه منها أعيد ذرعه في وسطي، رغم بكائه وشده لشعرى، أسرع خلف الموكب، أصرخ فيه: 
- لماذا أتيت معى؟ كنت قعدت مع أمك.  
 لا يفهم ما أقول، يعبرعن ضيقه وجوعه، يضربني، يخمش وجهي.. ولو   لن أترك الزفة.
أنتظر هذا الموكب من السنة للسنة، لم يفتنى ولا مرة منذ أن وعيت عليه، كل سنة أمشي وراء الزفة في ذهابها وإيابها، وهاهى عائدة يا بوذ الإخص.. بدلا من الصراخ شاهد الزفة انظر عم قنديل مثل القمر، على من تبحث يا عم قنديل بحصانك الأبيض، على ست الحسن التي في حكايات أمي، كانت تقول إن الشاطر حسن يأتي بحصان أبيض ليخطف ست الحسن على حصانه ويطير!!
 وجدتنى أتلفت يمينا وشمالا أريد أن أرى ست الحسن التى سيخطفها عم قنديل أو التي ستخطفه هى مني، لم أجدها ترى ألا يراها غيرك يا شاطر قنديل.
ولكن عم قنديل لم يخطف أي واحدة، لا في هذا العام ولا الأعوام السابقة، ربما لم يجدها بعد، ربما ينتظرها حتى تكبر، حتى أكبر أنا، وأصير ست الحسن، ليتك تنتظرني يا عم قنديل.
- اسكت يا نيلة، كده صحتني من الحلم الجميل، اتفضل روح لأمك، خدي يامه بهدلني، وبهدل البت فتحية، كسر وسطى، وشد شعري، وقرفني أخر قرف.
أدخل وأندلق على أقرب كنبة، أنتظر حتى تهدأ ضربات قلبي، بعد قليل أنهض، أغسل وجهي، وأفتح الحلة، ألتقت أربع أصابع كفتة، تصرخ أمي:
-  يا بت انتظرى أخواتك، واغرفى فى طبق.
 لا أرد تنتهي مهمتي، أغسل يديّ وفمي وأتسلل دون أن تلحظ خروجي، أتنهد حينما أراني خارج باب الشقة وأجري مسرعة إلى الصوان.. عم قنديل يجلس على كرسى قطيفة، حوله رجال يرتدون القفاطين، والعبيان، ويتعممون بشكل مميز ومتشابه، ألجأ إلى ركن العيال، من هنا أشاهد كل شيء بوضوح، أرى أبي وهو يدخل الصوان ويخطو نحو عم قنديل، يسلم عليه وعلى الشيوخ، يأخذ مكانه في المجلس، وتبدأ الأناشيد، وتبدأ أحلامي في الابحار.
«لما أكبر أجلس بجوار عم قنديل هنا في هذا المجلس، ولكن لا توجد ولا واحدة ست داخل الصوان!! لا يهم أنا فقط سأكون، ألست ست الحسن   وهو الشاطر قنديل، سيقول هاتوا ست الحسن بجواري، ويفسح لي الجميع المكان، وأجلس مكان هذا الشيخ الملتصق به، ويجلس هو بعيدا»
- ياللا يا عيال على بيت مولانا قنديل الحلو، الست عوزاكم. 
ينهض العيال صائحين: 
 - هييه، لقمة القاضي.. لقمة القاضي.  
أنهض معهم متثاقلة، أريد أن أبقى هنا بجوار الشاطر، لا يصح أن أبقى وحدي، ألحق بالأولاد، على بيت عم قنديل، زوجته تجلس على بسطة السلم أمام باب شقتها، بجوارها نسوة كثيرات من بينهن أمي، تلمحني
- جيتى يافالحة.. خذي أخوك. 
أشيح بوجهي.  
 - يووه.
أرقب النسوة أمام وابور الجاز، يصنعن حلوى لقمة القاضي ويوزعن على الأولاد، أنظر إلى زوجته؛  نصف عجوز،  ثمينة، بيضاء جدا، طيبة جدا جدا، يحبها كل الأولاد يصيحون: 
-  هاتي يا خالتي.. هاتى يا خالتي.
أقف صامتة، تربت على كتف. 
  والله كبرت يازينب وبقيت عروسة .
تناولني الورقة عليها بضع حبات من لقمة القاضي، أخذها منها وأتفحص صاحبتها وأنا لا أستطيع تحديد مشاعري نحوها؛ هل هى غبطة، أم غيرة!! 
فى ذات المساء انتقل جمع من الرجال إلى بيتنا، أبي تبدلت ثيابه، هذه ناصع بياضها، الرجال يصلون على النبي ويدعون بالبركة لأهل البيت، يضع عم قنديل يده في يد أبي كالمصافحة، يقول كلمات وأبي يرددها بعده.
ثم يقول عم قنديل:
«واستخرت الله العظيم وغطيت رأسه فى المجلس العام المحتوي على الإفاضل الكرام، وأذنته بافتتاح مجالس الذكر وإعطاء العهود على الوجه المعهود»
قالم الرجال يهنئون أبي. والنساء يزغدن. 
 - لقد صرت ممن دخل في رحابها، وانتظم في سلسلة أهلها
 - ماذا يُفعل بأبي يا ناس؟
اقترب مني أحد الأفاضل الكرام وقال: 
 - يأخذ العهد على يد الشيخ قنديل الحلو، ربنا يجعلنا من بركاته
قال آخر 
  قد استقامت أحواله، وظهرت أفضاله بأخذه وتلقينه.. وسيزف على الحصان مثل شيخه.
 - هل يصلح أن أخذ العهد مثله .
نظر لي عم قنديل من بعيد وأشار لي أن اقترب، فاقتربت وأنا أرتعد، وأشار لي أن أجلس بجواره، فجلست وأكاد أن يغشى على، مد يده يصافحني، فمددت يدي المرتجفة، والناس يهللون: 
-  ما شاء الله شيختنا الصغيرة . 
-  ما هذا الفتح العظيم يا أبا زينب ؟
- الشيخ قنديل مكشوف عنه الحجاب. 
كان الشيخ قنديل يقول كلمات يقف ترديدها في حلقي من جفافه، ولما زاد ارتعاش جسدي اقترب بجسمه ليهديء من روعي، الغريب أنني وجدت جسده هو الآخر يرتجف، أخذ يمسح جسدي بيديه ويقول كلمات لا أتبينها، وعندما لامست يده منطقة ما واستقرت بها قليلا، لا أدرى كيف انتفضت واقفة وصفعته على وجهه أمام الجميع، و.. سكن ارتجاف جسدي.
    
****
جاءت بأصبع متلألىء.. قالت:
-       انظرى كم هى جميلة..
-       الأجمل أن اسمه عليها.
-       بالضبط.. أجمل دبلة فى الوجود.
-       انت وقعت على رجل ليس له مثيل.

وتعجبت من نفسى.. حتى هذا لم يـثيرنى.. نظرت إلى يديها فى حيدة ومباركة حقيقية.. تأملت جمال أصابعها بفرحة تناسب صديقة عزيزة أتمنى لها الخير.. وشعرت بمدى تعاستها لو صحت على الواقع.. لا سأربأ بصديقتى من هذا الواقع..
-       مبارك يا عبير تستحقين الخير.
-       ليتنى استحق "عادل"
-       متى الفرح إن شاء الله..؟
-       قريبا.. قال عنده بعض المشكلات سينهيها قريبا.
-       لا ليس عنده مشكلات على الاطلاق اطمئنى.
-       كيف عرفت..؟
-  هو زميل قديم، وأعرف عنه الكثير من أمه، أوصيك بكوب العصير فى الصباح، وبفنجان القهوة المضبوط فى الظهيرة، وبكوب الزبادى فى العشاء.
-       هل ستكلمينه لينهى مشكلاته بسرعة..؟
-       نعم هذا ما سأفعله.. المهم أريدك أن تطمئنى.
-       والمطلوب منى.
-       تقولين لى أين يركن سيارته .
-       ها هو مفتاحها  أسبقه إليها حتى لا يشعر الزملاء.
عندما جلس أمام مقود السيارة واكتشف أن التى بجواره أنا كاد يغمى عليه.. لحقته بزجاجة عطرى.. رششت عبيرها أمام أنفه حتى استرد عافيته وقلت وكلى راحة لا أدرى مصدرها:

-  عبير نعم الزوجة، هى تحبك أكثر منى وتستحق مثلك، وقد وعدتها أنك ستنهى مشكلاتك بسرعة، لذا سنذهب الآن إلى المأذون .
آه نسيت اخباركم أن "عادل" زوجى .. تصورا
ولكن لا تظلموا صديقتى هى لا تعرف أن زواجنا عرفى.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق