عمتى معزوفة أبدية
:
الطريق
من دار عمتي إلى حقلها ليس بالقصير، ولكن المهمة التي
تطوعت
هى بالقيام بها قصَّرت المسافة معنويا رغم أنها أطالتها زمنيا..
فقد قررت أن تذكرنى بأقربائى،
وتشرح لى النسب والسلسال من قديم..
صحيح أن الوجوه قد تغيرت بحكم
الزمن لمن أعرفهم لكن الطريق ذاته،
والمناخ
لم يتغيرا بشكل ملحوظ
فقد شعرت بالسكة التى مشيت بها
كثيرا صغيرة وشابة.
أخيرا وصلنا الحقل وفي حضنها حمل الحطب.. ألقته بجوار الكانون..
أخيرا وصلنا الحقل وفي حضنها حمل الحطب.. ألقته بجوار الكانون..
قلبت قفصا وطوت جلبابا عدة طيات
وضعته فوقه وقالت:
- اقعدي.
- اقعدي.
درت بعيني فى المكان وقلت لها:
- لك دار وعندك بوتوجاز لماذا لا تطبخين هناك..؟!
ردت ببساطة:
- سلو بلدنا يا ابنة أخى.. اقعدي.
تجلس القرفصاء، تمد يدها في فتحة
سيالتها" تخرج علبة الكبريت.
المشهد رأيته مرارا وكنت وإخوتى صغارا نضحك ونقول لعمتى:
- فى جيبك خُرج الحاوي"
لكنني أنظر الآن بتأمل مختلف.. أتأمل
يدها وهى تسحب من الحطب عودا عودا
وتدفسه
فى اللهب فيزيد اشتعاله،فيسرع القدر بالغليان والبقبقة..
هى ملامح يدها نفسها من حيث
الهمة.. أما بضاضة صباها
فقد سلب
الزمن منها الكثير، وترك لها الجفاف والعروق والسمرة.
تدفس العود في الكانون بإرادة
فطرية تدخل يدها إلى قلب اللهب
فتخرج
أكثر ثباتا وعزيمة، تشير بإصبع واحدة إلى ابنتها فتفهم ماذا تريد..
هى الآن
تشير بنفس الأصبع إلى زوجة ابنها فتسرع وتأتى لها بدجاجتين.
تضع عمتي يدها في سيالتها.. خمنت
بأنها ستخرج السكين ..
صدق
حدسي.. تنهض لتشحذه على حافة الطلمبة الأسمنتي..
تأملت الحوض.. ترى هل يفصح جرحه
عن عدد المرات التى ذبحت فيها عمتى دجاجا..!
تهم زوجة الابن لتساعد عمتى فى
عملية الذبح .. فوجئت بها ترفض وتطلب منى مساعدتها:
- امسكي معي يا ابنة الغالي.
- أنا يا عمتى..!!
وقبل أن أتلعثم كانت قد دفعت إلى
بالدجاجة الأولى قائلة:
- امسكي ساقيها وجناحيها هكذا بيد، وجلد رقبتها باليد الأخرى.. بسم الله.. الله أكبر.
- امسكي ساقيها وجناحيها هكذا بيد، وجلد رقبتها باليد الأخرى.. بسم الله.. الله أكبر.
فى لمح البصر شاهدت الدجاجة
تتخبط فى كل اتجاه، وأنا أكثر ثباتا وأنا أمسك معها بالثانية لتتسلم من الأولى
رقصة الفرفرة التى تمارسها الدجاجات المذبوحات على مر الزمن قبل السكون.
تعدل عمتى الطست الذى أمامها،
تغمر الدجاجة فى الماء المغلى وترفعها بسرعة وتبدأ فى نتف الريش واستثمار الوقت فى
التحدث معى:
- لك كم سنة لم تنزلى البلد.. قلت أوريك غيطنا ومفرختنا.
- الظروف يا عمتى .. الأولاد فى المدارس، وأنا فى الشغل، وأنت تعرفين مسئوليات البيت.
- الظروف يا عمتى .. الأولاد فى المدارس، وأنا فى الشغل، وأنت تعرفين مسئوليات البيت.
- ولا حتى تغيرى هوا.. ألا تأخذين الأولاد فى نزهة..؟ انزلى بهم البلد.
- حاضر يا عمتي ربنا يسهل.. ماذا قلت فى الموضوع الذى جئت له..
- نأجل يا حبيبتي الكلام لبعد الغدا، وشرب الشاي .
- يا عمتى أنا تاركة الأولاد وحدهم، قلت مسافة السكة.
- غلطانة.. كنت أتيت بهم معك، حتى يعرفوا بلدهم وأهلهم..
- غلطانة.. كنت أتيت بهم معك، حتى يعرفوا بلدهم وأهلهم..
من يوم
ما تزوجت لم ترى البلد.
- حاضر يا عمتى.. أوعدك أحضرهم إن شاء الله.
- الله يرحمك يا أخى لم تأت بهم وهو موجود تأتين بهم بعد ما راح..!!
تنادى على زوجة ابنها:
- لمي الريش حتى نكمل "المخدة".
يا إلهي أمازالت تكمل المخدة أم
صار لدى عمتي مصنعا من وسائد الريش..!!
تجيء زوجة الابن تحمل كيسا
منتفخا تضعه إلى جوارها ثم تجمع ريش الدجاجتين فى حجرها وتقوم..
تشق عمتى بطن الفرخة وتخرج أحشاءها .. تلقى بها يمينا تجاه البط، أتأمل طابور البط وهو يأتى متخايلا فى مشيته ثم متبغددا فى التهامه للأمعاء.
تشق عمتى بطن الفرخة وتخرج أحشاءها .. تلقى بها يمينا تجاه البط، أتأمل طابور البط وهو يأتى متخايلا فى مشيته ثم متبغددا فى التهامه للأمعاء.
مشية البط فى دلال يذكرنى بابنة
عمتى صغيرة وكنا نقول لها يا بطة.. وكانت ممتلئة وتمشى تتبختر.. المشهد لم
يتغير ولكن دهشتى أنا هى المثيرة للدهشة.. ألأنه لم يتغير أم لأننى أنا تغيرت.
تواصل عمتى عملها بهدوء وهمة.. تقف
قليلا وتمسك بالحلة التى فوق النار بطرف جلبابها.. تدلق ماءها فى الطريق، تمشى
قليلا إلى الطلمبة تملأها بماء نظيف، تعود وتضعها فوق الكانون من جديد.
لما غلى الماء كانت عمتى قد
انتهت من تنظيف الفراخ وتقطيعها بعدد لا يحصى من القطع، تضع قطع الفراخ فى الحلة،
ترجع إلى الوراء قليلا تمد جسمها وهى جالسة وتعود بالبصلة.
ضحكت:
- زمان كنت تخرجين البصلة من جيبك.
وهى تلقي بها فى الحلة:
- كل وقت وله أذان يا ابنة اخي.
- ولماذا تعارضين فى بيع الأرض يا عمتى ما دام الزمن قد تغير.
- قلت لك بعد الغدا نتكلم.
الهدوء الذى تتحدث به عمتى.. يثير
فى نفسى توجسات لا استطيع تحديدها..
فقد
أعددت نفسى لرفض زاعق، وكلمات تردد منذ آلاف السنين.
" الذى يفرط فى أرضه يفرط في عرضه"
وكنت قد أعددت صيغة الدفاع المقنعة مشفوعة بقدر من التصميم..
وكنت قد أعددت صيغة الدفاع المقنعة مشفوعة بقدر من التصميم..
لكنها
لم ترفض، ولم تقبل هي تسوف.. بعد الغدا نتكلم.. ليكن.. جاءني صوتها:
- فيما سرحت يا ابنة اخى..؟
- لا شيء يا عمتي.
مازالت خزنتها "سيالتها"
عامرة، تخرج هذه المرة ورقة ملفوفة بها ملح وفلفل تفرغها فوق الدجاج، وتغطى الحلة.
قلت لها :
قلت لها :
- يا عمتى
دخان النار طالع على الحلة..!
قالت :
- لا
تخافي يا حبيبتي، عمتك أكلها سكر.. كنت زمان تحبين أكلى أنسيتي..!!
- لم انس يا عمتى.. لكن أخذتنى دوامة الحياة.
- دوامة الحياة تنسيك حق أولادك عليك..؟! على الأقل يعرفوان البلد كما
كنت انت صغيرة.. فى الصيف أسأل عليك يقولوا فى اسكندرية ما البلد مثل اسكندرية
وأحسن.. والآن جئت لبيع الأرض.. حتى تنقطعى تماما عن أصلك.
- يا عمتى المعيشة فى القاهرة غالية جدا وأبى الله يرحمه كان يساعدني.
- يا عمتى المعيشة فى القاهرة غالية جدا وأبى الله يرحمه كان يساعدني.
- ومن أين كان الله يرحمه يساعدك، ما هو من الأرض.. ماذا تغير..! على
كل حال بعدما تأكلى آخذك لتشاهدى غيط ابيك ربما لا يهون عليك.
أراحت عمتى مؤخرتها على الأرض وأتت
بالكيس وأفرغت ما به فى حجرها ، وأمسكت بالغربال المكفى فوق مشنة العيش.. تابعت
العملية التى استدعت ذاكرتى تفاصيلها من ماض بعيد، عرفت أن استعادة الشيء
البعيد يجعلك أكثر فضولا من مشاهدته لأول مرة.
ولكن هناك ما يجعلنى أكثر دهشة..
ربما الهمة التى لا تزال عليها عمتى ليس فقط فى يدها، ولا فى بدنها بل فى إرادتها ..
تأخذ مقدارا من الأرز الذى فى حجرها، تضعه فى الغربال، تطوح به بمهارة ورشاقة وهى
تنفخ، فيتكوم الأرز الصحيح فى ناحية أما القشر والأرز المكسر فيتجمع فى ناحية
أخرى، وبحركة ماهرة ترفع عمتى الغربال فيخرج الجزء غير المرغوب فيه فى الهواء تسحب
الغربال من تحته فينطرح على الأرض.
فى لمح البصر تجيء الدجاجات والكتاكيت تجرى وتلتقط كسر الأرز الذى
طوحته.
وضعت عمتى الجزء المغربل فى
صينية وأخذت تكرر العملية بالمهارة نفسها حتى انتهت، ثم بدأت تقلب الأرز بيدها
يمينا وشمالا، تصطاد حصوة أو قشة .. قلت:
- نقى الأرز حبة حبة يا عمتى.. قالت:
- نقى الأرز حبة حبة يا عمتى.. قالت:
ـ صلي على النبى يا ابنة أخى (بخشالته يربى رجالته(
ـ ياه يا عمتي مازلت ترددين هذه الجملة..؟
ـ هى لغتنا يا ابنتى.
نزلت حمامة وقفت على حافة
الصينية تلتقط الحب.. لا عمتى هشتها ولا الحمامة وجلت من حركة يدها..
راعتنى الألفة العجيبة بينهما.. فاستسلمت للمشاهدة حتى سمعت صوتها:
راعتنى الألفة العجيبة بينهما.. فاستسلمت للمشاهدة حتى سمعت صوتها:
- فيما أنت شاردة.
كانت عمتي تأخذ بالكوز من صفيحة
بجوارها ماء نظيفا وتضعه على الأرز ثم تهم قليلا على مقدمة قدميها وتأخذ فى دعك
الأرز بكلتا يديها، تنتشل الأرز فى حلة أخرى عدا القليل منه، تدلق الماء مطوحة به
على الأرض، فتسرع الأرض بشرب الماء، أما الدجاجات والكتاكيت فهى على الأهبة
من بداية العملية.
- ما رأيك.. أيعجبك هذا الغسيل أم أشطفه مرة أخرى..؟
- سلمت يداك يا عمتى.
عمتى الآن ترفع قطع الدجاج التى
نضجت من الحلة وتضعها فى صينية بجوارها وتغطيها بالمنخل الذى أدى مهمته منذ قليل
ثم تنهض قليلا وبذيل جلبابها تنزل الحلة الساخنة وتبحث عن الحلة المخصصة لعمل
الأرز.
فوجدتها غير نظيفة استدارت وهى القرفصاء ومشت خطوتين فى المكان تجمع عدة قشات، أما الخطوة التالية فكانت لالتقاط الصابونة.
فوجدتها غير نظيفة استدارت وهى القرفصاء ومشت خطوتين فى المكان تجمع عدة قشات، أما الخطوة التالية فكانت لالتقاط الصابونة.
بقليل من الماء والوقت غسلت
الحلة ووضعتها فوق الكانون، أخرجت الملعقة من خزانتها المحمولة "سيالتها"
غرفت بها السمن البلدى من قدر فخارى غطته بغطاء فخارى فوقه قماشة تربط بطرفها عنق
القدر.
قلبت الأرز بالسمن ثم وضعت فوقه بمرق الدجاج بمقدار تعرفه.. غطت الحلة و... قالت:
قلبت الأرز بالسمن ثم وضعت فوقه بمرق الدجاج بمقدار تعرفه.. غطت الحلة و... قالت:
- لما اقشر الثوم حتى تأتى البنت بالملوخية.
أخرجت عمتى رأس الثوم من سيالتها.. ربعت ساقيها وشدت جلبابها تحت فخذها فأصبح حجرها مسطحا كالطاولة.. استدارت قليلا فى اتجاه الريح، وبدأت فى تقشير الثوم، الهواء يحمل القشر بعيدا بعد أن يرتفع ويدور قليلا فى الهواء.
أخرجت عمتى رأس الثوم من سيالتها.. ربعت ساقيها وشدت جلبابها تحت فخذها فأصبح حجرها مسطحا كالطاولة.. استدارت قليلا فى اتجاه الريح، وبدأت فى تقشير الثوم، الهواء يحمل القشر بعيدا بعد أن يرتفع ويدور قليلا فى الهواء.
عزفت أصابع عمتى والهواء وقشر
الثوم الناصع البياض معزوفة رائعة شدت انتباهى وإعجابى من قديم تجدد عهدها اليوم،
وظل حجرها نظيفا طوال مدة التقشير.
لما انتهت من المهمة رجعت عن استدارتها التى فهمت مغزاها الآن.
لما انتهت من المهمة رجعت عن استدارتها التى فهمت مغزاها الآن.
فى التو جاءت زوجة الابن
بالملوخية، أسرعت عمتى بفرد قماشة نظيفة.. وضعتها عليها وبدات فى عملية التقطيف
وتضع فى حجرها بعد أن لمته واسقطته بين ركبتيها اللتين رفعتهما قليلا، حجرها الآن
غويطا يستقبل أوراق الملوخية ولا يطيرها، أما العيدان فكانت من نصيب الأرانب
والغنم..
قلت لعمتى:
قلت لعمتى:
ـ الملوخية فى حجرك يا عمتي
وبدون غسيل
قالت :
- ثوبى
نظيف لبسته من على الحبل والملوخية من الغيط حالا.
لما أتت عمتى على آخر عود أتت
بالحلة والسكين وبدأت فى تخريط الملوخية.. معزوفة أخرى تحبس انفاسى وتثير شهيتى
لمعايشة نوع من القلق اللذيذ.
تأخذ عمتى بقيضة يدها أوراق
الملوخية وباليد الأخرى تحزها بالسكين في سرعة متوالية.. وسؤالي التقليدي والذى
أعرف إجابته:
- هل ستنعم الملوخية بهذه الطريقة..؟
ظل قلبى يرجف وأنفاسى شهقة
مكتومة وراء شهقة مع كل حز تحزه عمتى فى الملوخية تحسبا لإصابة يدها بحد السكين
واسالة الدم على الملوخية، ولكن هذا لم يحدث وما هى إلا دقائق، وإذا بعمتى تجمع
الملوخية الناعمة تماما وتبدأ في طهيها .. هززت كتفى فى استسلام وأغمضت عينى
اللتين تعبتا من التحديق حتى لا تفوتى لمحة مما تفعل عمتى، اسدلت جفنى وانشغلت مع أفكارى فإذا بصراع وجدل يمزقنى بينى وبين نفسى
أتساءل:
: كيف مرت كل هذه السنوات ولم أنزل إلى البلد رغم أننى كنت أحب ذلك فى
صغرى..؟!!
: وكيف أحرم أولادى من الانطلاق فى هذه الأجواء التى أصقلت شخصيتى
ونشأتنى سوية معافاة..
: مشاغل الحياة كما قلت
لها..
: وهل أنا
فعلا مقصرة فى حق أولادى كما تقول عمتى..؟
: لا بل هى تضيع الوقت لكى تضيع على فرصة بيع الأرض..
: لكنها تراعيها بإخلاص..؟
: طبعا لأنها تستفيد منها..!!
: لكن الأرض عندها فى آمان.. تخدمها وأولادها وتعطينا أكثر مما كنت
أتحصل عليه من أبى.
: أرضى وأنا حرة فيها
: وهى عمتى وتقدم لى النصح..!
: الصواب والخطأ وجهات نظر بحسب المنفعة.
: هذا البيع سيقطع صلتى بالبلد وبأقربائى.
: أنا فعلا فى غنى عن المجيىء هنا بدليل كل تلك السنين.
: لا .. كان والدى همزة الوصل.. كنت أشعر فى وجوده بأننى لم أغب عن
بلدى.
: وعندما شعرت بالفراغ أسأت التعبير.
شدتنى من دوامتى رائحة التقلية
تقتحم أنفى، وتدخل إلى مسامى وبصوت عمتى:
- هيا يا
حبيبتى الأكل جاهز.. أكيد جعت.
- ابدا يا عمتى هناك نأكل بعد هذا الوقت بكثير.
- الطبلية أمامك تحت التكعيبة.. اعدليها.
لم ألحظ أن التكعيبة لا تزال فى
مكانها، ولاتزال أوراقها ترسم ظلالها على الأرض وعلى ملابسنا لوحات بديعة ومتغيرة ..
رددت بيت الشعر:
تصد الشمس أنَّ واجهتنا
فتحجها وتأذن للنسيم
ولم أدر
كيف عرف باقى أولاد عمتي وأحفادها أن موعد الغداء قد حان فأتوا جميعا يركضون.. قالت
عمتي:
- أتأكلين معهم أم وحدك..!!
- معهم يا عمتى .. معهم.
والسؤال الذى قفز إلى ذهني:
" كيف سيأكل كل هذا العدد من الكبار والصغار وعمتى ذبحت دجاجتين فقط"
إلتف الكبار حول الطبلية.. أما
الصغار فقد فرشت لهم أمهم قطعة مشمع بجوارنا وبدأت عمتي تخرج قطع اللحم دون أن
تكشف الغطاء.
- نصيبك يا ابنة الغالى.
واستمرت "تدس" يدها من
تحت الغطاء وتسمى وتعطى وأنا أتابعها لاهثة الأنفاس متوقعة أن يدها ستخرج ذات مرة
فارغة قبل أن يأخذ باقى الأولاد نصيبهم.. ولم يحدث حتى آخر طفل.. هدأت أنفاسى.. ونظرت
إلى عمتى وقلت لها نقتسم نصيبي يا عمتى
تبسمت وقالت:
- ربنا ما يحرمني منك يا ابنة الغالي.. كلك حنية مثل أبيك.. حقي موجود
يا الحبيبة.
أخرجت قطعتها وتابعت كلامها:
- أنا لا أنسى نفسى أبدا .. كلى.
وأكلت.. ومع أول رشفة من
الملوخية أكتملت بداخلى معزوفة التوحد مع هذا النظام..
هل يقبل الانسان على طعامه
بمسامه كلها فيحسها تتفتح وتدرك أنه ألذ طعام، وأن جميع ما حولها يتمتع بنصيب وافر
من صفاء الجو والنفوس.
وترمينى ذاكرتى لسنوات مضت إنه
نفس الطعم الذى كنا نتقاتل من أجله صغارا، وندرك أن قطعة اللحم الصغيرة من يد عمتى
كم هى لذيذة ومشبعة، ونرفض العودة إلى المدينة إذا ما جاء أبى ليأخذنا..
نمسك أنا واخوتى فى جلباب عمتى
ونرجوها أن تجعله يتركنا حتى نهاية الأجازة.
ولم يكن الأكل فقط هو ما يجذبنا
للبقاء وإنما الانفلات من قبضة الرقابة، والركض بين الحقول وحواديت عمتى فى المساء.
وعند النوم أتشاجر أنا وابنة
عمتي على حضنها، فإذا بعمتي تحل المشكلة في هدوء بأن تنام على ظهرها وتنيمني على
ذراع وابنتها علي الأخر، ونسعد جميعا بدفئها.
صحوت من ذكرياتي على صوت عمتي:
- تذهبين الآن لتشاهدى الأرض..؟
وجدتني أقول بحماس:
- ليس الآن يا عمتي.. الجمعة القادمة أحضر الأولاد لنراها معا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق